الزراعة فى مصر القديمة


شهدت مصر، خلال الفترة بين 5500 ق.م. و5000 ق.م، حقبة ما يعرف بالعصر الحجري الحديث. ومن أجل التخلص من الآثار الشديدة للمجاعة والسخط الاقتصادي المصاحب له؛ فإن قدماء المصريين في عصر الأسرات أقاموا حضارتهم على تجمعات زراعية. واجتذبت تلك التجمعات، بنحو ألفي معبد في مركزها، قدرا عاليا من الأنشطة الزراعية. وكان هناك دعم من الدولة، بحوافز تشجيعية؛ لإنجاح تلك المجتمعات الفلاحية. واشتملت تلك الحوافز على الإعفاء من الضرائب ومن الخدمة الإلزامية. وبنجاح تلك النماذج من التجمعات الاقتصادية والروحية، خلال سنوات الأسرة الثانية عشرة، بدأت الدولة في إقامة مشروعات توسع؛ أضافت ما يربو على واحد وعشرين ألف فدان إلى الرقعة الزراعية بالقرب من مدينة الفيوم. ومنذ عصر الدولة الحديثة؛ مُنحت الأراضي الحدودية التي لم تكن تصلها مياه الري مباشرة، دون مقابل، إلى المعابد وكبار المسئولين وقدماء المحاربين: من أجل إصلاحها، واستزراعها.
وبتقدم الحضارة المصرية، زادت حاجة البلاد إلى المزيد من الأراضي؛ لمواصلة الازدهار الزراعي. وشهد عهد الرعامسة بداية الاهتمام الخاص بمنطقة الدلتا. وبينما كانت الدلتا في غالبها منطقة رعي، فإن جهود الدولة كانت إيجابية؛ وأسفرت عن زيادة الأراضي القابلة للزراعة، من ثمانية آلاف كيلومتر مربع إلى ثلاثة عشر ألف كيلومتر مربع. وفي عصر البطالمة، استمرت مصر في التوسع الزراعي؛ فأضافت 310 ألف فدان قريبا من الفيوم التي كانت تعتبر حزام مصر الزراعي. وبوصول إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في مصر إلى سبعة ملايين فدان؛ أصبح نموذج مصر للتجمعات الزراعية مقبولا للغاية.
وأصبحت مصر، خلال العصر الروماني، مقاطعة تابعة لروما. وإذا كانت الحضارة الرومانية قد أتت بالرخاء إلى ألمانيا وشمال أوربا، فلقد كان لها تأثيرها العكسي على الاقتصاد الزراعي في مصر. ونتيجة لذلك أهملت الترع والقنوات؛ مما أدى إلى تقلص مساحة الأراضي الزراعية في مصر إلى نحو نصف ما كانت عليه خلال عصر البطالمة. واستمر تقلص مساحة الأراضي الزراعية، فيما بعد؛ إلى أن وصلت إلى مليون ونصف مليون فدان فقط، في عهد المعز لدين الله الفاطمي.
ولقي الرخاء في مصر، وهو في ذروته، دفعة أكبر؛ بدخول الزراعة الشتوية للقمح: وهو ما قضى على مشكلة النقص في الغذاء، وكان الكتان والفول والعدس والبصل هي المحاصيل الرئيسية؛ بينما أدى الرخاء إلى وجود وفر من العنب (الكروم) والفاكهة؛ مثل التمر والتين والنبق والجميز والرمان، وأشجار السنط (الأكاسيا) والنخيل. وبتغطية احتياجات الناس من الشعير، للجعة والخبز، أمكن تصدير الغلال أيضا. واعتبارا من القرن السابع الميلادي أصبحت مصر مصدراً هاما لإطعام شعوب منطقة البحر المتوسط؛ مما جعلها هدفا للغزو الخارجي. واستمر هذا الوضع بعد فتح العرب لمصر، وإن كانوا قد أدخلوا محاصيل جديدة إلى البلاد مثل الأرز وقصب السكر، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الميلاد. ويشهد العالم القديم لمصر بنجاح الاقتصاد المدعوم من الدولة، ونشأة الحضارة.

العمل بالزراعة

شارك معظم أفراد المجتمع المصري في وجه أو آخر من النشاط الزراعي. وكان الفلاحون يعملون، كأجراء، لدى الملاك الأثرياء أو المسئولين؛ لقاء المأكل والملبس والمأوى. أو أنهم كانوا يستأجرون الأرض من الملاك؛ لقاء جزء من المحصول. ولم يتوفر دائما العدد الكافي من العمالة لإنجاز أعمال الزراعة والحصاد. ولهذا كانت مجموعات العمال تحشد معا لأدائها، من خلال نظام للعمل الإلزامي. وكانت الأراضي المرتفعة، في سهل الفيضان على جانبي النهر، هي التي تزرع؛ فتلك التربة السوداء كانت هي الأكثر خصوبة بين الأراضي في مصر.
واستخدم المزارعون في مصر القديمة أدوات بالغة البساطة. ولعزق الأرض وتفكيك التربة، استخدم الفلاحون معزقة مصنوعة من نصل خشبي حاد الحافة مثبت بحبل من ألياف نبات في يد خشبية طويلة؛ يميل عليها بزاوية حادة. واستخدم أيضا المحراث الذي صنع من نصل خشبي مثبت في زوج من الركائز الخشبية؛ ويمتد عمود من الركيزتين إلى نير يستقر على رقبتي دابتين (ثورين ) يجران المحراث. ويميل الفلاح الحراث على الركيزتين؛ لكي يدفع بالنصل في التربة، بطول الأخدود. ومن بين الأدوات الزراعية أيضا المنجل الذي استخدم منذ العصر الحجري الحديث، وحتى الدولة الحديثة؛ في حصد محصول الغلال. وهو مصنوع من الخشب وبه صفوف أنصال من حجر الصوان ولقد حلت أنصال النحاس، ثم البرونز، محل الصوان؛ في عصر الدولة الوسطى. وأدخلت النصال الحديدية بعد عصر الرومان. وربما استخدم الزراع أيضا بلطات (أو فئوسا) من الحجر المسنون، ومجارف (مغارف) خشبية ومذاري خشبية ومدمات خشبية وهى أدوات ذات أسنان، لجمع العشب أو تقليب وتسوية التربة.
وكانت مياه فيضان النيل تغمر الوادي خلال فترة (في العام) تعرف باسم "آخيت"؛ وهي تقابل الفترة الزمنية من شهر يوليو إلى شهر ديسمبر، في التقويم الحالي. وكانت المياه تغطي الأراضي الزراعية، بينما أوصلت الترع المياه إلى الأراضي التي لا يصل إليها مياه النيل. وكانت فترة التدفق هي فترة موسم البرد، الذي امتد من شهر ديسمبر إلى شهر مارس؛ وكان يطلق عليه لفظ "بيرت". وعندما كانت الأرض تجف وتجمد، بحيث يمكن السير عليها؛ فإن الأرض كانت تحرث عادة بالاستعانة بدابة. وكان الكاتب المكلف يكيل الحصة المقررة من الغلال للمزارع، ويحفظ البيانات في سجل مكتوب. وكانت الحبوب تبذر يدويا، وبمصاحبة دواب؛ مثل الماعز والأغنام، فتسير في الحقل وتدفع في سيرها الحبوب في الأرض قبل أن يتمكن الطير من التقاطها.
ثم يعقب فصل الجفاف الذي يمتد من شهر مارس حتى شهر يوليو، وكان يطلق عليه اسم "شيمو"؛ وفيه يحل موعد الحصاد. وكان الكتبة، يقودهم "ملاحظ أو مراقب الحقول"، يقومون بقياس مساحة الحقل؛ لتحديد الناتج المحتمل، من أجل مقارنته بالإنتاج الفعلي بعد الحصاد. وكان الهدف من ذلك تحديد قيمة الضرائب، وللتأكد من الأمانة في الإبلاغ عن المحصول. وعندما يصبح المحصول جاهزا للحصاد، فإنه كان يقطع إلى منتصف الساق باستخدام المناجل ويوضب في حزم وينقل إلى مكان جاف؛ تجنبا لتلفه. ثم يدرس بعد ذلك، بأن ينشر في مساحة محصورة ويداس عليه بحوافر الحمير أو الأبقار. وتنتهي عملية الدرس بفصل الحب عن القش. ويعقب ذلك إزالة القش الأخف من الحبوب الأثقل؛ باستخدام المذراة. ثم يستخدم العمال غرابيل (أو مناخل)، لفصل الأعشاب والقش الأدق. وبعدها تخزن الغلال في سلال أو أكياس موضوعة في صناديق أو حفر مبطنة بالقرميد؛ أو في صوامع للغلال. وكان معظم المحصول يستخدم في الاستهلاك على مدار العام؛ ولكن كان يحفظ جزء منه، لكي يستخدم كمصدر للبذور التي تزرع من أجل محصول العام التالي.

المحاصيل

زرع قدماء المصريين ثلاثة أنواع من القمح (الحنطة)، هي:الأينكورن والإمر والعلس. والأينكورن هو نوع بدائي وحيد الحبة، من الحنطة. وتتميز حنطة الإمر بأن لها سنيبلات بحبتين صلبتين لونهما أحمر تبقيان بعد الدرس. وأما العلس فإن له سنيبلات تحتوي على حبتين لونهما أحمر خفيف. واستخدم القمح والشعير في صناعة الخبز والجعة.
وزرع قدماء المصريين، في الحدائق الصغيرة أو كمحاصيل ثانوية، الكثير من الخضروات؛ منها البصل والثوم والكراث والخس المصري (البلدي) والفجل والكرنب والأسباراجوس (الهليون) والقثاء والعدس والبازلاء والفول والكثير من التوابل. كما زرعوا السمسم والكتان والخروع؛ لاستخلاص الزيوت. وزرعت الأعناب في كرمات خاصة منفصلة، وإن وجدت أيضا بالحدائق؛ كما زرع النخيل والتين والرمان والقاوون (البطيخ أو الشمام).
وخصص قدماء المصريين أراض لزراعة الكتان الذي كان المادة الخام الرئيسية في صناعة النسيج. وكان البردي، الذي كان ينمو في المستنقعات بطول النهر، يصنع منه الورق والحصير والصنادل. وأدخلت محاصيل أخرى جديدة، بعد الفتح العربي؛ مثل الأرز وقصب السكر: بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادى.


الري

اعتمدت الزراعة في مصر، منذ عصور ما قبل التاريخ، على مياه النيل وغمرها السنوي المستمر للأراضي المصرية؛ بالفيضان الذي أمدها بالمياه والغرين (الطمي). وهكذا، كانت الأراضي تروى سنويا بانتظام عن طريق ما يعرف بنظام "ري الحياض"؛ وهو نظام ينطوي على تقسيم الأراضي إلى حياض الذي هو عبارة عن إقامة حواجز طينية . وتنساب المياه من القنوات إلى الأحواض. وتحمل كل قناة الماء إلى نحو ثمانية من الحياض؛ الواحد تلو الآخر. وبهذه الطريقة، يزيد نصاب الأراضي الأقرب إلى شاطئ النهر على تلك الأراضي التي هي أبعد. ومع الزمن، تطورت طرق الري في مصر القديمة؛ نحو الري الصناعي: بهدف الحفاظ على المياه الفائضة عن الحاجة، بعد الفيضان، في أحواض قريبة من شاطئ النهر من أجل الاستخدام في ري مزيد من الأحواض التي لم تصلها مياه الفيضان. وقد تحقق ذلك من خلال حفر مزيد من القنوات والجسور. ويعد الري الصناعي إنجازا مصريا قديما تطلب التعاون الكامل بين الدولة والأمة؛ مع المثابرة.
ومنذ استقرار الإدارة المركزية للدولة، واصل قدماء المصريين تسجيل منسوب مياه النيل في سجلات رسمية. وتظهر أقدم السجلات لمناسيب الفيضان على حجر باليرمو، من الأسرة الخامسة؛ ويحمل عدد 63 سجلا لمناسيب مياه النيل. وتواصل القياس، وتطور، حتي عام 715 الميلادي؛ حين بني مقياس النيل أو مقياس الروضة، على جزيرة الروضة. واستمر استخدام هذا المقياس حتى بداية القرن العشرين. وكان لرصد منسوب مياه النيل تأثير على تقدير قيمة الضرائب والمساحات التي يمكن ريها خلال العام. وكانت الأقاليم مسئولة، عقب الفيضان، عن إدارة القنوات والترع؛ بينما أجريت عمليات قياس مساحات الأراضي ومناسيب المياه، على المستوى القومي.
وقدمت المعابد في العصر البطلمي كل منطقة باعتبارها وحدة اقتصادية منفصلة؛ مبينة اسم الترعة التي تروي المنطقة، والمساحات المنزرعة الواقعة على شاطئ النهر وتروى مباشرة من مياهه، وكذلك حدود الأراضي التي يمكن استصلاحها. وقد سمح نظام ري الحياض فقط بزراعة محصول واحد أثناء فصل الشتاء؛ بينما الأراضي المرتفعة البعيدة عن نطاق الفيضان هي فقط التي كان من الممكن زراعتها خلال فصل الصيف. ولذلك، عندما اخترع قدماء المصريين وسائل لرفع المياه؛ مثل الشادوف، أصبح بإمكانهم زراعة محصولين في العام الواحد: مما اعتبر تقدما هائلا في مجال الري. وقد اخترع الشادوف في عصر العمارنة، وهو أداة بسيطة؛ ولا يتطلب في تشغيله لأكثر من شخصين إلى أربعة أشخاص. ويتكون الشادوف من عمود طويل معلق موزون بثقل عند أحد طرفيه ومثبت به دلو عند الطرف الآخر؛ ويمكن له رفع مائة متر مكعب من المياه في اثنتي عشرة ساعة، وهو ما يكفي لري مساحة تزيد قليلا على ثلث فدان.
واخترعت الساقية، في العصر البطلمي، لرفع المياه. والساقية عجلة ضخمة هائلة ثبتت حول محيطها قدور فخارية. وتغطس الساقية في الماء، ثم تدور؛ لترفع من أربعة إلى ستة أمتار مكعبة من الماء: وبإجمالي يصل إلى 285 مترا مكعبا في 12 ساعة.


المصدر : موسوعة حضارة مصر الخالدة

0 comments:

إرسال تعليق

أهم المواضيع