رؤية عامة على السمات الحضارية لعصر الإنتقال الأول

رؤية عامة على السمات الحضارية لعصر الإنتقال الأول


يشير  عصر الإنتقال الأول إلى الفترة التى بدأت فيها إنهيار السلطة المركزية  الملكية ، حيث إختلف علماء المصريات فى بداية تحديدها و مداها الزمنى ،  فرأى فريق منهم أنها تبدأ بنهاية الأسرة السادسة ، و رأى فريق آخر أنها  تبدأ بنهاية الأسرة الثامنة . كما تنتهى تلك الفترة بإعادة توحيد البلاد  مرة أخرى على يد الملك منتوحتب الثانى . و يميل البحث بصفة مبدئية إلى  الأخذ بالرأى الثانى و لا سيما بعد إكتشاف شواهد أركيولوجية عديدة ترجح  وجود سلطة ملكية مركزية ( و إن إعتبرها البعض شكلية ) حتى نهايات الأسرة  الثامنة ، كما تجدر الإشارة إلى ذكر حقيقة هامة و هي : أن المؤرخ المصري  مانيتون وضع خطا بالمداد الأحمر تحت نهاية الأسرة الثامنة و بدأ بجمع سنين  حكم ملوك تلك الفترة ( منذ الأسرة الأولى و حتى نهاية الأسرة الثامنة )  الأمر الذي يعكس إمكانية و صلاحية وضع ذلك العصر بأكمله فى بوتقة واحدة و  هى بوتقة الدولة القديمة

إن التساؤلات التى تطرح نفسها علينا هي :
1 كيف نظر المصري القديم الى هذه الفترة فى العصور اللاحقة ؟
2 كيف كانت حال آثار ذلك العصر كما و كيفا ؟
3 كيف صور حكام الأقاليم أنفسهم فى ذلك العصر ؟
و للإجابة على التساؤلات السابقة ، نشير إلى الحقائق التالية :
1 لم تعكس قوائم الملوك وجود إنقطاع تاريخي فى السلطة المركزية منذ  نهاية عصر الدولة القديمة و حتى بداية عصر الدولة الوسطى ، فظهرت أسماء  الملوك واحدا تلو الآخر كما لو كانت مصر لم تمر بهذه الفترة الإنتقالية على  الإطلاق ، فالدولة الوسطى تلي مباشرة الدولة القديمة على القوائم الملكية ،  و لكن لا ينبغي تصديق ما ورد فى هذه القوائم الملكية التى ظهرت بالتحديد  خلال عصر الدولة الحديثة ، ( تورين - سقارة - أبيدوس ) بسبب أنها كانت تهدف  لتغطية الإنحلال و اللامركزية التى أصابت البلاد فى ذلك العصر ، فلم تكن  قوائم الملوك مادة لكتابة التاريخ و إنما كانت أداة لقياس الزمن و تنظيم  الترتيب الزمني لملكية مصر الأزلية و الأبدية
2 بدأ حكام الأقاليم  فى ذلك العصر فى تدوين الأحداث السياسية و الدينية لذلك الزمن ، فصوروا  أنفسهم داخل مقابرهم بوصفهم ملوكا على أقاليمهم فكانوا يؤرخون لحكمهم ، و  يعتبرون أنفسهم زعماء محليين تولوا زمام الأمور بموافقة شرعية من أرباب  أقاليمهم ، فعمل كل منهم على إصلاح الأمور السياسية و الدينية و الإقتصادية  داخل إقليمه و خرجت سيرتهم الذاتية على أفضل صورة  فصورتهم كأبطال قاموا  بإنقاذ أقاليمهم من المجاعات التى أصابت البلاد فأتت على الأخضر و اليابس
3 لا ينبغى أن نأخذ بكل ما ورد فى كتابات مقابر حكام أقاليم عصر  الإنتقال الأول على أنه صائب من الناحية العلمية التاريخية ، فلم يكن الهدف  هو كتابة التاريخ للأجيال القادمة داخل مقابرهم ، و إنما هو ذكر أعمالهم  الطيبة و أفضالهم و حسناتهم فى العالم الآخر . فضلا عن ذلك فقد ذكروا  لأنفسهم سيرة ذاتية مثالية نموذجية لا تنطبق على الواقع الإنسانى التاريخي  فضلا عن أن شواهد عصر الإنتقال الأول لا تنسجم و لا تتلائم مع معطيات  السيرة الذاتية لهم
4 يجب توخي الحذر عند دراسة نصوص و أدب عصر  الدولة الوسطى التى صورت عصر الإنتقال الأول كعصر مليء بالكوارث و الأزمات و  الفوضى ، فكان ذلك هو عمل سياسي أيدولوجي فى المقام الأول و الأخير ، يهدف  الى إظهار ملوك الدولة الوسطى كمنقذين من الكوارث و معيدين للسلام و  الأمان و الخير فى مصر ، فلم تكن لديهم خطة أخرى للوصول الى العرش و  تبريرهم لذلك الحدث سوى تصوير الملكية فى عصر الدولة الوسطى على أنها مرادف  للنظام و ذلك فى مقابل فوضوية عصر الإنتقال الأول و هى ذات الفكرة التى  إعتمد عليها الرعامسة فيما بعد فى تصوير عصر العمارنة الفوضوي ، فالملكية  لا يمكن تصورها كأداة ناجزة و كحالة مثالية إلا فى وجود عصر مظلم سبقها
5 -  إزدادت جبانات الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول ، فانتشرت المقابر  فى ربوع البلاد مما أكد على وجود زيادة سكانية فى مصر خلال ذلك العصر ، و  علاوة على ذلك ، فقد إزداد حجم الأثاث الجنزي فى تلك المقابر فى عدد كبير  من الأقاليم مما يكشف عن وجود ثراء نسبي فى أقاليم مصر خلال تلك الفترة ، و  هو أمر يناقض تماما ما ورد ذكره فى أدبيات الدولة الوسطى التى صورت  الإنهيار السياسي و الإقتصادي لمصر فى صورة بلاغية رمزية لا تتفق مع  المعطيات الأثرية لعصر الإنتقال الأول
6 لم يوجد إنقطاع فى آثار ذلك  العصر على الإطلاق ، فقد ظهرت قبور و مصاطب ضخمة الحجم فى جميع أقاليم مصر  ، بل و يمكن القول أن الحفائر الجديدة قد كشفت عن نتائج مذهلة تمثلت فى  وجود مصاطب و مقابر ذات رسوم و نقوش عالية الجودة و المهارة الفنية ، فقد  تم تنفيذها طبقا لأفضل و أجمل قواعد مدرسة منف الفنية الأمر الذي يعكس  إنتشار فناني منف نحو بعض الأقاليم المصرية خلال عصر الإنتقال الأول و بعد  إنهيار السلطة المركزية طلبا فى السعي وراء الرزق و لتلبية الإحتياجات  الفنية لطبقة إجتماعية جديدة
7 لم تكن كل مقابر الأقاليم فى ذلك  العصر قد نفذت رسومها و نقوشها طبقا لقواعد و مباديء مدرسة منف ، فقد منح  حكام الأقاليم فى منف الفرصة لأبناء و شعب أقاليمهم لكي يضعوا سمات الفنون  الإقليمية داخل مقابرهم و التى لم يكن من الممكن أن تظهر فى عصر الدولة  القديمة و فى ظل وجود سلطة مركزية قوية ، و لاريب أن سمات الفن الإقليمي  جاءت متواضعة إذا ما قورنت بسمات الفن الملكي لمدرسة منف
8 إستولى  حكام الأقاليم على بكرات الكتابة التى كانت محفوظة فى الأرشيف الملكي و  بدأوا يسجلون متونا دينية على جدران توابيتهم ، فكانت تلك الكتابات تضمن  لهم مصير أخروي طيب يضاهي مصير الملكية فى عصر الدولة القديمة . و عرفت هذه  النصوص بمتون التوابيت التى لم تكن سوى تطور دينى لنصوص الأهرام ، فبدأت  هذه المتون تصور الأفراد بشكل عام و حكام الأقاليم بشكل خاص فى أوضاع  سياسية و دينية جديدة تتفق وأوضاعهم الإجتماعية الجديدة كما كانت هذه  المتون تصور و تصف خريطة للعالم الآخر مصحوبة بنص مخصص لإرشاد المتوفى فى  طرق العالم الآخر ، الأمر الذي يدل على تطور الفكر الدينى فى مصر القديمة  خلال عصر الإنتقال الأول
9 لم يعد حاكم الإقليم يشير فى مقبرته إلى  فضل الملك عليه ، بل أصبح يتحدث عن سيرته الذاتية و يشير إلى شرعية حكمه  كحاكم على الإقليم بفضل إلهه المحلي الذي أعطاه الصفة القانونية لممارسة  سلطانه فى الإقليم ، فحاكم الإقليم لم يعتبر نفسه موظف لدى الملك و لا هو  ممثل للسلطة المركزية ، و إنما هو موظف مفوض من قبل إله الإقليم ذاته ، و  من هنا أصبح معبود الإقليم هو السلطان و الحاكم الحقيقي للإقليم الذي يأمر  أتباعه بالعمل فى الأقاليم من أجله ، فالأمر الجديد هنا هو أن المبادرة  السياسية أصبحت تأتي و لأول مرة من جانب الإله الذي حل محل الملك
10   ظهور قبور جماعية متعددة لصغار الموظفين بجوار مقابر حكام الأقاليم ، مما  يعكس وجود شخصية إجتماعية و سياسية جديدة و هى شخصية حاكم الإقليم الذي يعد  أصحابه و أنصاره فى العالم الآخر بمصير أخروي جيد إن هم دفنوا بجواره ،  فيتولى مسألة تموينهم بكل الخيرات و إمدادهم بجميع القرابين تماما كما كان  يفعل تجاههم خلا ل حياته ، فيجعل مصيرهم مرتبط بمصيره ، فمن يضع نفسه تحت  رحمته – كما جاء فى نصوص ذلك العصر – ينجو و يصل إلى طريق الأمان و السلامة  ، و لعلنا هنا نشير إلى أن ذلك الطرح الجديد هو ذات المفهوم الذي إرتكزت  عليه الأيدولوجية الملكية خلال عصر الدولة الوسطى
11 إهتمام حكام  الأقاليم بآلهتهم المحلية ، فقد كان ذلك هو السمة المميزة للحياة الدينية  فى ذلك العصر ، فقد كان الإله ( أوزير ) على سبيل المثال محط أنظار  الأقاليم التى دخلت فى صراع عسكري مسلح مع بعضها البعض ، فمن المعروف أنه  كان هو الإله المحلي لمدينة أبيدوس ، التى دارت حولها المعارك فى تلك  الفترة ، فقد ظهرت فكرة دينية تنادي بأن رأس المعبود أوزير دفنت فى تلك  المدينة ، كما حظيت عبادته بشعبية هائلة فى ذات العصر بفضل المجهودات التى  قام بها كهنة أوزير الذين قاموا بتمثيل أسطورة حياته و وفاته و إنتصاره على  الموت و ذلك أمام عامة الشعب فى أبيدوس و سمح أنصاره لبعض الأهالي  بالإشتراك فى تلك الإحتفالات مما ترك أثرا دينيا كبيرا فى وجدان المصريين ،  الأمر الذي يشهد عليه وجود شواهد و نصب لمقابر العامة التى دونت عليها  دعوات و توسلات للخروج من القبر بعد الوفاة لمشاهدة تلك الإحتفالات كما  كانوا ييشاهدونها خلال حياتهم

0 comments:

إرسال تعليق

أهم المواضيع