إشكالية تمصير الملوك ذوي الأصل الليبي خلال عصر الإنتقال الثالث بين الحقيقة التاريخية و الأيدولوجيا السياسية


 ( إشكالية تمصير الملوك ذوى الأصل الليبي خلال عصر الإنتقال الثالث بين الأويدولوجيا السياسية و الحقيقة التاريخية )
يتناول الدارس من خلال هذا المقال إشكالية تمصر الملوك الليبيين الذين تولوا مقاليد الحكم فى مصر خلال الأسرات ( 22 و 23 و 24 ) و فيما يعرف بعصر الإنتقال الثالث فى الأوساط الأكاديمية العلمية و لاريب أنها قضية فرضت نفسها و بقوة فى الآونة الأخيرة ، بعد ظهور مقالات و دراسات علمية جديدة تناولت الموضوع بعمق منهجى و علمى أكثر شمولا مما سبقها من دراسات و أبحاث قديمة . و لا يفوتنى فى هذا الصدد أن أهدى هذا المقال للزميل المحترم و الصديق المخلص الأستاذ أحمد سعيد الذى لا يتردد أبدا فى تقديم المساعدة لزملائه و زميلاته فى حقل الإرشاد السياحي
أصبح واضحا و من خلال الشواهد الأركيولوجية أن الليبيين مع نهاية الأسرة العشرين قد تغلغلوا فى الدلتا و حتى هيراكوليوبوليس ( إهناسيا ) بصورة كثيفة و دون رقابة فعلية ، بل و يمكن القول أنهم تواجدوا ، و لو بصورة أقل كثافة ، فى مصر العليا . و تجدر الإشارة إلى أن الملوك الرعامسة و لا سيما فى الأسرة عشرين قد إعتمد عليهم إعتمادا تاما فى الجيش و الإدارة الملكية ، فأصبح الجنود ذوى الأصل الليبى يشكلون نسبة كبيرة جدا من تكوين الجيش المصري ، و قد كان ملوك الرعامسة يقدمون هبات من الأرض كأجور لهم ، الأمر الذى أدى إلى نشأة جاليات عسكرية ليبية ، كانت القيادة فيها لهم دون سواهم . و من ناحية أخرى تمكنت عناصر من الماشواش ( و هى إحدى القبائل التى تمركزت من قبل فى غرب صحراء مصر الغربية بجوار جيرانهم من الليبيين و اندمجوا حضاريا و ثقافيا معهم ثم إتحدوا بهم أثناء زحفهم نحو مصر خلال الأسرة عشرين ) فى الوصول الى مناصب هامة فى البلاط الملكى و الى مراكز القيادة العليا فى الجيش .
و لا ينبغى هنا أن نغفل عن ذكر أمر هام و هو : أن الرعامسة قد أقاموا حصون عسكرية فى صحراء مصر الغربية لمنع تسلل عناصر من الليبيين و الماشواش الى وادى النيل ، و بالرغم من ذلك ، فقد تمكنوا من إختراق جميع التحصينات العسكرية ، فأخذ البعض منهم يشيع الإضطراب الأمنى و عدم الإستقرار بين أهالى و شعب مصر الأمر الذى تسبب فى أن يكونوا هم أحد العوامل التى دفعت بأفول دولة الرعامسة فى نهاية الأسرة عشرين و بداية عصر الإنتقال الثالث بدءا من الأسرة الحادية و العشرين ، و انتهى الأمر بوصولهم الى تولى مقاليد السلطة فى البلاد فأصبحوا حكاما على مصر خلال الأسرات ( 22 و 23 و 24 )
إعتقد عدد كبير من الباحثين أن الملوك ذوى الأصل الليبى قد تمصروا بشكل كامل ، و أنهم لم يتذكروا شيئا عن أصولهم الأولى ، بعد إندماجهم فى مجتمع مصر و إنصهارهم فى الحضارة المصرية ، مما أدى إلى تمصيرهم ( عبر فترة ليست وجيزة من الزمن ) دما و ثقافة و سلوكا . و هنا يميل الباحث الى طرح مجموعة من التساؤلات المشروعة تتصل كل منها بالآخر و بشكل رئيسي :
1 – ما وجه الإختلاف بين عصر الأسرات 22 و 23 و 24 و الأسرات السابقة ؟
2 – إلى أى مدى تمصر حقا ليبيو الألفية الأولى ؟
3 – هل لم يكن لهؤلاء الملوك ثقافة ( ليبية ) أصلية و حقيقية ، قبل إندماجهم بالحضارة المصرية ؟ و هل لم تظهر أى آثار أو نتائج تكشف عن ثقافتهم خلال فترة حكمهم ؟
4 – ما هى المعايير التى يرتكز عليها علماء المصريات فى توصيف شعب أجنبى أنه قد تمصر ؟
و ردا على التساؤل الأخير نجد أن هذه المعايير هى :
1 – إتخاذ الأجانب لأسماء مصرية
2 – التوجه إلى عبادات و معبودات مصرية
3 – إتخاذ عادات الدفن المصرية و ما يرتبط ذلك من بعض التصورات العقائدية الجنزية
4 – مضمون و محتوى المناظر على الآثار كلها و ما تكشفه من سمات فنية مصرية
5 – إستخدام الكتابة المصرية القديمة
و لا ريب أنه لم يستدل أثريا حتى الآن على قرائن تدل على وجود ثقافة ليبية أصلية و حقيقية ، و من ناحية أخرى ، نجد أن الحكام ذوى الأصل الليبى لم يذكرون بوصفهم أجانب سواء فى الوثائق و الآثار المصرية أو المؤرخ المصري مانيتون
ظهرت فى الآونة الأخيرة دراسات علمية جديدة لا تسلم بمضمون التمصر الكامل للملوك الليبيين ، فذلك الطرح تم إستخلاصه و بشكل أساسي لتصويرهم فى المناظر برداء مصري و هيئة مصرية ملكية كاملة . و فى واقع الأمر ، إعتادت الأيدولوجية الرسمية المصرية سياسيا و دينيا على إظهار جميع الملوك الذين حكموا مصر بسمات فنية مصرية على جميع المنشآت الرسمية للدولة بصرف النظر عن كونهم مصريين أم أجانب ثم تمصروا ، فتلك هى الصورة الوحيدة المقبولة شرعيا أمام آلهة مصر لإسباغ الشرعية على الملوك ، و لكن ذلك الأمر لا ينبغى أن ينخدع به دارس المصريات و إلا تصورنا أن الملوك البطالمة قد تمصروا فعليا و أصبحوا أتقياء و ورعين لمجرد تصويرهم على جدران المعابد المصرية برداء ملكى مصري أمام المعبودات المصرية !
توجد مجموعة من الحقائق تحول دون التسليم المطلق بالتمصير الكامل للملوك الليبيين للأسباب التالية :
1 – إن إنقسام البلاد إلى عدد من الأقاليم المستقلة هو الشكل المميز و اللافت للنظر لتلك الحقبة ، و لكن ما يهمنا على وجه الخصوص فى هذا الصدد هو عدم وجود أدبيات لذلك العصر تصفه بعصر الفوضى كما حدث فى عصري الإنتقال الأول و الثانى ، فتقسيم البلاد كان دائما من الأوضاع الغير مقبولة دينيا و سياسيا قبل عصر الإنتقال الثالث لكونه لا يتفق و الأيدولوجية الملكية المصرية ، و لكن ما حدث خلال عصر الإنتقال الثالث هو أن الأسر الملكية و مناطق السلطة المختلفة تعايشت سلميا و إعترفت ببعضها . فقد أصبحت و لأول مرة اللامركزية هو النموذج الأمثل المعبر عن نظام حكم مستقر و ظهرت لدينا ( ملكيات متعددة ) فى أقاليم مصر تعترف ببعضها البعض و هى سمة جوهرية فى بنيات و ثقافات المجتمعات ذات الطبيعة شبه بدوية التى تمكنت من فرض ذلك النظام على الأيدولوجية الملكية المصرية و لم يلقى معارضة جوهرية
2 – تبنى الحكم ذوى الأصل الليبي ظاهريا الأيدولوجية الملكية المصرية ، و لكن إذا ما خدشنا السطح الظاهرى ، فإن تركيبات السلطة غير المصرية تظهر أسفله بوضوح و يرجع ذلك إلى أن الطبقات الحاكمة نفسها لم تكن قد تمصرت كثيرا أو بشكل كامل و هذا ما يمكن لنا أن نلاحظه فيما يعرف بلوحات الهبات الملكية التى ظهرت خلال عصر الإنتقال الثالث ، فنجد فيها هؤلاء الحكام و هم يظهرون بوصفهم ( زعماء الماشواش ) و ليس ( ملك مصر العليا و السفلى ) صاحب العطاء أمام الآلهة ، كما ظهروا فى معظم الأحيان على تلك اللوحات برداء غير ملكى مصري . إن مثل ذلك الطرح يتضح لنا فى دعاء الملك ( أوسركون الثانى ) ، إذ يلتمس من المعبود( آمون ) مايلي : " أنت سوف تشكل نسلي ، النطفة التى تخرج من أعضائي ، حكاما كبارا لمصر و أمراء و كهانا أوائل لآمون رع ملك لآلهة ، و زعماء كبارا للماشواش ، و كهانا للإله حور سا إيسة "
3 – نلاحظ تأثيرا ليبيا غير مباشر فى إستخدام أنواع معينة من الكتابة و تطويرها فى عصر الإنتقال الثالث . فهناك خلط قوي بصورة لافتة للنظر فى مجالات الكتابة المختلفة للخطين التقليدين الهيروغليفية و الهيراطيقية ، إذ أن لوحات الهبات الملكية التى بدأ ظهورها بكثرة منذ ذلك العصر و لا سيما فى الدلتا ، قد نقشت بالهيراطيقية ، على الرغم من أن اللوحات الحجرية المنقوشة كانت تستعمل فى العادة الخط الهيروغليفي
4 – ظهور نظامين مختلفين للكتابة المائلة ، المعروف بإسم الهيراطيقي المائل أو الهيراطيقي الشاذ فى طيبة علاوة على بداية ظهور الخط الديموطيقى فى تلك الفترة و هو الخط الذي شق طريقه من مصر السفلى مما يعكس الوضع السياسي و الإداري و الثقافي و العرقي فى عصر الإنتقال الثالث
5 – ظهور مفردات و كتابات صوتية متعددة ، عوضا عن الكتابات الرسمية التقليدية العتادة فى النصوص الهيروغليفية و الهيراطيقية ، مما يشير إلى جوهر لغة ليبية فرعية ، فالصفوة الليبية حاولت أن تتعلم اللغة المصرية القديمة التى نشأت عليها بطريقة يسيرة و غير معقدة بالنسبة لهم
6 – وجود بعض المفردات و الكلمات الليبية من لغة ليبية فى الموروثات المصرية بدءا من عصر الإنتقال الثالث ، و يرى البعض أن هذه المفردات قليلة العدد و غير مؤثرة إلا أن ذلك قد يرجح إستنتاج لا يخلو من دلالة : أن لغة الليبيين ظلت تستخدم فى التواصل الشفهى فقط ، بينما إستخدمت الكتابة المصرية فى تصريحاتهم المكتوبة
7 – نلاحظ وجود تغييرات جذرية فى مجال دفن الموتى سواء فى النطاق الملكي أم فى المحيط الشخصي . فقد كانت الجبانة الملكية فى موقع مستقل و منفصل قبل عصر الإنتقال الثالث ، و لكن ظهر تطبيق عملي جديد بدءا من ذلك العصر تمثل فى مفهوم ( تشييد المقبرة فى فناء المعبد ) و هو ما ظهر بشكل واضح فى تانيس و منف ( مثل مقبرة ولى العهد شاشانق ) و فى طيبة أيضا ، و لاسيما فى معبدي الرامسيوم و مدينة هابو( مقابر الزوجات الإلهيات و مقبرة حور سا إيسة )
8 – الميل الواضح إلى تشييد مدفن الأسرة الملكية المتواضع حجما و شكلا ، بدلا من مفهوم الدفن الفردي الملكي باهظ التكاليف ، مما يعد إبتداعا جديدا فى مظاهر الدفن ، فقد أعدت فى بعض الأحيان منشآت جنزية قديمة بسرعة لأصحابها الجدد بشيء من عدم الإكتراث و من دون إجتهاد بشكل قوي لوضع أعمال و كتابات دينية و زخرفية جديدة و قوية مثلما كان يحدث سابقا و من المؤكد أن سبب كل ذلك لم يكمن فى نقص ثرواتهم - كما رأى فريق من الدارسين – و علينا هنا أن نتذكر فقط كنوز المقابر الملكية فى تانيس – و لا بسبب قصور فنى تقنى و لكنه يعكس موقف فكري آخر من قضية الموت ، و هو شيء من عدم الإكتراث تجاه الإستعدادات الباهظة فى الموروثات القديمة ، و تلك الثقافة تتناسب بلا شك مع عادات و تقاليد مجتمعات شبه بدوية مثل مجتمعات الليبيين
9 – إصرار بعض ملوك عصر الإنتقال الثالث على تشييد مدافن ملكية جماعية فى تانيس ، لم تقتصر على دفن الملك بمفرده و إنما جمعت دفنات الزوجات و أولياء العهود بل و بعض كبار رجال الجيش أحيانا مما يكشف عن عدم إيمانهم بفكرة الفصل الواضح و الإستقلال الكامل لمقبرة الملك عن المقابر الأخرى و هو ما لا يتفق و الأيدولوجية الملكية المصرية الرسمية المعتادة
10 – ظهور سمة جوهرية فى مجال الوظائف الإدارية لتلك الفترة و هى : الجمع بين وظائف مختلفة و متعددة و متناقضة تماما لبعض البعض فى أيدي شخصية واحدة و هو شكل إدارى و سياسي غير مألوف فى مصر و لم يحدث إلا فى حالات إستثنائية جدا قبل ذلك العصر . فقد أصبح توزيع الوظائف طبقا لتنوعها و ما تحتاجه لتدريب من نوع خاص يتطلبه الإختصاص الوطيفي ليس معيارا فارقا لكن الغلبة الشخصية فى إمتلاك وسائل السلطة ، أصبحت هى السمة السائدة ، و لاريب أن ذلك هو من صميم الأنظمة الفكرية و الإدارية للإقطاعيات الخاصة بمجتمعات شبه بدوية الذى لا يعتمد على التخصص الوظيفى و الكفاءة الإدارية بقدر إعتماده على السيطرة السياسية و الإحتكار السلطوي لمعظم المناصب
11 – على الرغم من وجود تمصير شكلي ظاهري لبعض الزعماء الليبيين و الماشواش فيظهرون أحيانا بالزى المصري ، إلا أن عددا كبيرا منهم ظل يصور نفسه بريشة الزعماء الليبية المعهودة فوق رأسه ، كما ظل معظم حكام تلك الفترة يستخدم أسماء شخصية ليست مصرية مثل ( شاشانق – أوسركون – تاكلوت )
12 – تصدي كهنة طيبة كجبهة سياسية وطنية وحيدة لهؤلاء الزعماء أحيانا و معارضتهم السياسية لهم فى بعض الفترات مما أدى إلى رد فعل قاسي من جانب ( أوسركون الثانى ) الذى قام بحرق بعض كهان آمون فى نهاية الأسرة 22 ، الذين رفضوا سيطرته على طيبة و منصب كبير كهنة آمون ، الأمر الذى يعكس عدم إقتناع كهنة آمون بالتمصير الشكلى لزعماء الماشواش و الحكام ذوى الأصل الليبى ، و قد يعترض البعض على ذلك بتصويرهم لذلك الصراع على أنه مجرد صراع سياسي بين قوتين ( قوة كهنة آمون و قوة زعماء الماشواش ) للوصول إلى مقاليد السلطة ، و لكن بمراجعة موقف كهنة آمون تجاه ملوك الكوشيين الذين حكموا مصر خلال الأسرة 25 – و هم من أصل نوبي – الذين تمصروا بشكل شبه كامل و عن يقين و إيمان بالعقيدة المصرية القديمة ، فلم يلقوا أى معارضة من جانب كهنة آمون بل النقيض من ذلك ، تمدنا وثائق تلك الفترة بمدى إستعانة كهنة آمون بهم ضد ( تاف نخت ) – من ملوك الأسرة 24 ذوى الأصل الليبي – و مدى ترحيبهم بالملوك المعروفين بالكوشيين
يتبين لنا مما تقدم أن مفهوم ( الإندماج الثقافى و الإنصهار الحضاري الكامل لملوك عصر الإنتقال الثالث من ذوى الأصل الليبي ) هو أمر يحتاج لإعادة نظر ، فعلى ضوء ما تقدم من الشواهد الأثرية ، لا يمكن التسليم بحقيقة التمصير الكامل . و ينبغى لنا أن نأخذ فى الإعتبار أن الملوك الليبيين و من خلال خصوصيتهم الثقافية ، قد أصبحوا فى أزمة تعارض و تصادم تجاه أنماط ثقافية مصرية تقليدية عند توليهم مقاليد السلطة ، وهى أزمة لم تواجه مطلقا ممن لم يجيئوا غزاة ، فقد دخلوا مصر كأسرى حرب منذ عصر الأسرة ( 20 ) ، و طالت فترة إقامتهم فى البلاد و احتلوا المناصب العالية حتى وصلوا للعرش ، فتخيروا من الوسائل و الأدوات السياسية و الدينية المناسبة لعرض أنفسهم كحكام للبلاد ، فحاولوا أن يوفقوا بين الأنماط الثقافية المصرية التقليدية الموروثة و بين خصوصيتهم الثقافية التى لم تختفى على الإطلاق حتى وصولهم للعرش ، فجاء تمصيرهم جزئيا تارة ، و شكليا تارة أخرى .

0 comments:

إرسال تعليق

أهم المواضيع