المفهوم الشعبي و الكهنوتي للألوهية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة
.....................................................................................
.ظهر مفهوم الإله في عصر الرعامسة و هو يحتل سمات الملكية بمفهومها الذي كانت قد روجت له منذ عصر الدولة الوسطى ، فالإله في عصر الرعامسة هو ( أب لليتامى ) و ( زوج للأرامل ) و ( ملجأ للمكروبين ) و ( نصير الفقراء ) فهو الذي يقوم بإنقاذ البؤساء ممن هم أقوى منهم . و من جانب آخر ظهر الفرد المتدين في عصر الرعامسة بوصفه فقيرا و ضعيفا مما يجعله في حاجة ماسة لحماية الإله بصرف النظر عن مكانته الإجتماعية الحقيقية فلا ينبغي إضفاء صفة الصدق المطلق لأصحاب نصوص الأدعية التي يتوجهون من خلالها لأربابهم و لذلك فقد ظهرت عبارات دينية بعد عصر العمارنة تكشف صراحة عن أن أصحابها يبحثون عن مفهوم ( حماية الإله ) فقط و ليست هذه الحماية يمكن طلبها أو توجيهها لأحد آخر في عالم الدنيا ، فنقرأ على سبيل المثال في نصوص ذلك العصر :
" لم أبحث عن حام لي بين الناس ، فالإله ( آمون ) – و في نصوص أخرى ترجع لذات العصر ( بتاح ) – هو حاميني "
يتضح لنا من هذه العبارة و ما شابهها من عبارات أخرى مماثلة لها ظهرت في نفس العصر أن الفرد المتدين لم يعد يتحدث عن ( ماعت ) و لم يعد يضع ثقته في ( ماعت ) و لا سيما خلال عصر الرعامسة فمما لاريب فيه أن المحقق لدور ماعت التاريخي في حضارة مصر قبل ذلك العصر يكتشف أنها العمل الذي كان يوحي به دائما قلب الإنسان ، فلا عمل طيب دون فكرة نابعة من القلب و لا قلب دون أن يمتليء بالماعت ، فالعمل الطيب هو فعل منبثق من القلب المليء بماعت ، فكانت هذه هي الرسالة الحضارية طوال عصر الدولة الوسطى و حتى ما قبل عصر العمارنة ، إلا أن ( ماعت ) في نصوص الرعامسة و لاسيما في مدينة طيبة تكاد تختفي تماما و لا وجود لها في ذهنية كهنة و شعب مدينة طيبة إلا فيما ندر و لذلك يتجه المرء في طيبة لعالم الآلهة كبديل لمفهوم الماعت التي تأثرت كثيرا من أضرار السياسة الملكية للعمارنة .
لم يعد الخلاص يتحقق بتطبيق ماعت التي كانت تعمل على وضع الفرد المتدين في مساره الصحيح ، بل أصبح الخلاص مرتبطا بالخضوع لإرادة الإله و من هنا ينبغي للفرد أن يثق في حمايته له تماما مثلما كانت تنادي النصوص المصرية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة طائفة من الناس الذين وصفتهم بأنهم " الذين يضعون أنفسهم في يد الإله " إلا أن الدارس يود أن يؤكد على حقيقة هامة و هي : إن وضع الفرد المتدين لذاته في يد الإله الذي يتولى رعايته و حمايته كان أمرا معروفا منذ بدايات عصر الأسرة الثامنة عشرة و لاسيما في مدينة طيبة فهناك بواكير و إرهاصات أولى لذلك المفهوم منذ تلك الفترة و لكن هذا المفهوم بلغ الذروة القصوى في عصر الرعامسة فلا يكاد يخلو نص من تلك الفكرة .
ما هي القرائن التي تؤكد على ذلك المفهوم ؟ ....... من الدلائل التي نسوقها على صحة النتائج السابقة هو ما ورد في اللوحة الخشبية للموظف ( آمون إم إيبت ) المحفوظة حاليا في متحف برلين ( رقم 6910 ) و الذي تم دفنه في دير المدينة و كان قد عاش في عصر الملك سيتي الأول ، حيث يقول هذا الموظف في لوحته :
" كم هو جميل الجلوس بين يدي آمون حامي الصامتين و منقذ الفقراء و الذي يرشده – يرشد صاحب اللوحة – إلى عمر طويل في غرب طيبة ، النعيم لمن وصل الغرب لكي يكون سعيدا بين يدي الإله " .
من الممكن أن نستقي بعض الملاحظات الهامة من هذا النص الأخير تتمثل فيما يلي :
1 – لا وجود لمفهوم الماعت التي ينبغي العمل بها في عالم الدنيا لكي ترافق صاحبها في العالم الآخر .
2 – لا حديث عن الملك أو الملكية التي تتحكم في مصير الفرد المتدين في العالم الآخر ، فصاحب اللوحة أو المقبرة ليس من المطلوب منه أن يضع الملك في قلبه أو يجلس بين يديه و إنما يسعى للجلوس بين يدي آمون لكي يحظى بنعيم عالم الغرب .
3 – أن المعبود ( آمون ) و ليس ( أوزير ) و لا سيما في مدينة طيبة بالنسبة لعدد كبير من أهلها ، هو الذي يرشد المتوفى إلى عمر طويل في غرب طيبة ، فالغرب في طيبة بالنسبة له يقع تحت السيطرة الحصرية لآمون و هنا لا وجود لعالم آخر أوزيري و لا حديث عن محكمة أخروية أوزيرية و لا وجود للقب ( ماع خرو ) بمعنى صادق الصوت و هو اللقب الذي حاز عليه أوزير في العالم الآخر بعد تبرئته في المحكمة الأخروية .
و لكي تصبح الصورة الدينية الشعبية الكهنوتية أكثر وضوحا و قوة في مدينة طيبة نستشهد بقرينة أخرى وردت في قبر الموظف – كيكي – في غرب طيبة في عصر الرعامسة ، حيث قام هذا الموظف بتسليم كل ممتلكاته إلى الإلهة ( موت ) و جعلها الإلهة الوحيدة الحامية له خلال حياته فضلا عن رعايتها له بعد مماته فنقرأ في قبره ما يؤكد صحة الإستنتاجات السابقة :
" و عندما قام هو بالتفكير مع نفسه – صاحب القبر – عسى أن يجد له وليا ، وجد ( موت ) على قمة الآلهة ، و كان المصير و النجاح بيدها ، و الحياة و الهواء تحت تصرفها ، و كل ما يحدث لا يحدث إلا بأمرها " ثم قال " أريد أن أضع كل ممتلكاتي تحت يديها فهي قد أخذت مني الخوف و حمتني ساعة العوز ( الفقر ) و أنا ضعيف في أرضها و أحد الفقراء الذين يحجون لمدينتها ( معبدها و كل ما يتعلق به ) و لم أتخذ من البشر أحدا لحمايتي و لم أبحث بين الكبار عن ولي يحميني و لم أجد إبنا لي ينظم عملية دفني ، فمسألة دفني هي رهينة بيدي ( موت ) و من يتخذ ( موت ) حامية له فلا يوجد إله يهاجمه و لا يمسه أي سوء و سيصبح سيد القبر و لا يعرف الموت "
يتضح لنا من هذا النص الأخير نتائج هامة تتمثل فيما يلي :
1 – إن الحديث عن إتخاذ إله أو إلهة كولي و كحامي و كملجأ للفرد المتدين لا ينبغي فهمه بالشكل المجازي و لا سيما في عصر الرعامسة ، فالفرد المتدين عندما يسمي الإله أو الإلهة أب أو أم له فهو كذلك في عالمه الحقيقي و هو هنا يؤكد على هذه الأبوة أو الأمومة الإلهية عندما يعترف و يقر بها في النص ، فالإله في عصر الرعامسة أصبح بالنسبة لشرائح متعددة من مجتمع طيبة وليا و سيدا و حاميا للفرد المتدين و لا سيما عندما يقول في النص " لم أتخذ من البشر أحدا لحمايتي و لم أبحث بين الكبار عن و لي يحميني "
2 – تحول مفهوم التدين الشعبي و الكهنوتي نحو الإله و تحل هنا إرادة الإله محل مفهوم ماعت ، فلم تعد ماعت تلعب الدور الرئيسي في العالم الآخر بالنسبة لهذه الشرائح من المجتمع الطيبي و لم تظهر ماعت بوصفها تهبط لعالمه الأخروي حتى يسعد بها مثلما كانت النصوص تؤكد على ذلك المفهوم من قبل .
3 – يكفي صاحب المقبرة أن يتخذ من موت حامية له حتى لا يهاجمه أي إله آخر ، فالمعبودة ( موت ) بالنسبة له هي التي تحميه في عالمه الدنيوي و الأخروي و لا حديث هنا عن ( آمون ) أو ( رع ) أو ( أوزير ) أو أي إله آخر الأمر الذي يكشف عن حقيقة هامة : أن بعض شرائح المجتمع الطيبي في عصر الرعامسة لم يعبر عن إيمانه بأن هذه الآلهة الأخرى كان لها سلطان عليها في عالمها الدنيوي و الأخروي مما يشير إلى نتيجة أخرى :
" أن الإيمان بدور هذه المعبودات الأخرى لم يكن حقيقة أو حتمية ثقافية مطلقة و ملزمة للجميع ، بل هي حقيقة نسبية و لم تكن كل الأفكار التي تتعلق بمعبود بعينه ملزمة إلزاما حتميا بالتصديق و الإيمان بالنسبة لفئات أخرى من المجتمع "
4 – يختفي هنا من هذا النص مفهوم الملكية التي كانت موجودة قبل عصر الرعامسة بوصفها المتحكمة في سعادة الفرد في عالمه الدنيوي و المتحكمة و المهيمنة على مصيره الأخروي فلا حديث عن الملك الحاكم في مدينة طيبة عند هؤلاء الأفراد في عصر الرعامسة لا في عالم الدنيا و لا في العالم الآخر .
5 – لا يتحدث صاحب المقبرة عن عن إنجازاته في عالم الدنيا التي جعلته مؤهلا لكي ينال الخلاص في عالمه الأخروي و لا يشير إلى أنه قام بإطعام الجائع أو أنه منح الجعة أو الشراب لمن لا يملك أو أنه أعطى تابوتا لمن لا تابوت له أو أنه قام برعاية الأرامل أو الفقراء و لا يتحدث عن محكمة المعبود أوزير التي من المفترض أن يلقاها عندما لعالم الغرب الأخروي ، فكل ما سبق لا وجود له في نص هذه المقبرة ، بل يكتفي بالتعبير عن ورعه و تقواه و ثقته التي وضعها في يدي الإلهة ( موت ) التي إتخذها ولية و حامية وحيدة و لا أحد سواها في عالمه الدنيوي و الأخروي " فمن يتخذها حامية له " مثلما يقول " ليس هناك إله آخر يهاجمه " .
6 – وصف المتوفى نفسه بأنه " أحد الفقراء الذين يحجون لمدينتها و أنها قامت بحمايته في ساعة العوز ( الفقر ) " و هنا لا ينبغي أن نأخذ بحرفية النص الذي يزعم صاحبه أنه كان فقيرا مما إستوجب حمايتها له في ساعة العوز ، فمثل هذه النصوص تركز على أمر آخر و هو " كلما كان الفرد المتدين فقيرا كلما إشتدت حاجته الماسه لموت التي تحميه من أضرار و عواقب الفقر ، بصرف النظر عن مكانته الإجتماعية الحقيقية فلا علاقة بذلك بوضع الإنسان الإجتماعي الفعلي في عالم الدنيا و الدليل على ذلك أنه يقول في سياق آخر " أريد أن أضع كل ممتلكاتي في يدي الإلهة موت " ، مما يعني وجود ممتلكات لصاحب القبر و هو الأمر الذي يتعارض مع مفهوم الفقر المطلق إذا ما تم إدراك النص بظاهره و حرفيته .
و لكن و برغم ما تقدم من معطيات و نتائج يطرحها صاحب هذه الدراسة إلا أنه يلقي الضوء على حقيقة أخرى :
" أن إتجاه الورع و التدين الشعبي نحو آمون كان أكثر عمقا و إنتشارا من التيار الفكري الذي أعلن عن ولائه و تدينه نحو الإلهة موت في عصر الرعامسة في مدينة طيبة حيث وجهت الدعوات و الأمنيات و التراتيل له أكثر مما وجهت لقرينته موت ، فنقرأ على سبيل المثال في اللوحة الخشبية للموظف ( آمون إم إيبت ) :
" لقد مكثت بالأمس و اليوم في يد آمون و قد شعرت بالنجاة و بقوة خطته و من يتخذ لنفسه وليا بين الناس تفشل خططه ، أما أنا فقد جعلني آمون منحدرا منه و به وجدت الخير "
و مما لاريب فيه أن جميع هذه النصوص الدينية التي عبرت عن ورع و تقوى أصحابها تجاه آمون في طيبة كشفت عن مفهوم ( تدخل الإله آمون في حياة الناس و مصائرهم ) فالإله ( و لاسيما آمون ) هو من يعمل تاريخيا في حياة البشر ( مجتمع طيبة ) و هو الذي يرشدهم نحو درب الخير و الخلاص ، و هو الأمر الذي مهد تدريجيا نحو بزوغ مفهوم ( دولة الإله آمون في طيبة ) في نهاية عصر الرعامسة فقد تكونت في نهاية الأسرة عشرين في مدينة طيبة دولة إلهية يتصدرها المعبود آمون الذي صار يحكم بين الناس من خلال ما يعرف بظاهرة ( العرافة و النبوءة و الوحي ) و هي الظاهرة المجتمعية الشعبية الكهنوتية التي كانت معروفة قبل عصر الرعامسة و زاد تأثيرها الديني فيما بعد ، حيث كان يخرج موكب آمون المقدس من الكرنك خلال الأعياد و المناسبات الإلهية ، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور نتيجة أنثروبولوجية ثقافية هامة و هي :
" بعدما كان الملك الحاكم هو الصورة المقدسة للإله على الأرض أصبح الإله ( و لاسيما آمون ) هو الملك الذي يحكم بين الناس في نهاية عصر الرعامسة مما نتج عنه ظهور دولة الإله في طيبة على هيئة و شكل ( الحكم الديني المباشر لآمون ) من خلال ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي "
و تزامن ذلك كله مع إنحلال السلطة الملكية للرعامسة في نهاية الأسرة عشرين و بداية إنتقال مصر لمرحلة تاريخية جديدة و هي عصر الإنتقال الثالث الذي تميز باللامركزية و عدم وجود سلطة ملكية موحدة في البلاد و تأكيدا على المفهوم السابق طرحه نقرأ على سبيل المثال في نصوص تلك الفترة :
" قوي هو ( آمون ) في حكمه أقوى من سخمت ، كالنار في العاصفة و هو الذي يقوم بإمداد و تموين كل من يعبده و هو الذي يشفي من الألم و يرى كل الناس و يسمع الملايين منهم و هو الذي يمضي في السماء و يجوب العالم الآخر لكي يضيء كلا العالمين من أجل مخلوقاته و هو آمون رع ( ملك مصر العليا و السفلى ) و هو الذي يهب العمر و يضاعف السنين لكل من كان تحت رحمته و نعمته "
يتضح لنا مما تقدم أن أحد الدوافع الرئيسية وراء ظهور و تنامي و إزدياد ظاهرة الورع الشعبي و الكهنوتي نحو المعبود آمون في طيبة في عصر الرعامسة هو الممارسة المجتمعية الدينية لخروج مواكب آمون المقدسة التي كانت تتجه إما للبر الغربي في عيد الوادي الجميل أو إلى معبد الأقصر في عيد الأوبت ، فتحولت مثل هذه الأعياد إلى مجال لإتصال القوم في طيبة بمعبودهم روحيا و أصبحت المجال الوحيد الذي يرى فيه الناس بهاء و روعة ربهم آمون كحاكم لمدينته حيث يمارس سلطته على الجميع و يعد أتباعه بالخلاص إن إتبعوه و قدسوه و من هنا تجاوب أنصاره و كهنته مع هذا الورع الشعبي فأضفوا عليه من الصفات ما تقدم ذكره و تحول آمون إلى إله يتدخل تاريخيا و روحيا في حياة و مصائر الناس الأمر الذي مكنه من إنشاء دولة روحية له ذات طابع سياسي ، فصار هو ملك مصر العليا و السفلى المهيمن على كل شيء في الوجود