لقد اخذ اليونان عن حضارة بلاد النهرين مبادئ الرياضيات التى لم يقتصر فيها اهل بلاد النهرين على نتائج التجارب العلمية وانما وصلوا فيها الى درجة التنظير العلمي (وضع النظريات) ويكفي ان نذكر في هذا المجال ان الاصل الذي اخذ عنه عالم الرياضيات اليوناني فيثاغورس نظريته توصل اليها اهل الخبرة في بلاد النهرين وكتب على لوح من الطين المحروق محفوظ الان في متحف الاثار ببغداد وقد نقل اليونانين اراء الكلدانيين في علىم الفلك الذين اطلعوا البشرية لاول مره في التاريخ على نظام ثابت للأجرام السماوية فأخذ اليونانيون عن البابليين استخدام الساعة المائية والشمسية كما اقتبسوا عنهم مبادئ الفلك والات الرصد والجداول الفلكية والخرائط الجغرافية وطريقة تقسيم الدائرة الى 360 درجه وكل درجة الى 60 دقيقة وكل دقيقة الى 60 ثانية وما استطاع طاليس ان يتنبأ بكسوف الشمس الذي حدث في عام 585 ق.م. الا بفضل معرفته بحسابات البابليين عن حركات النجوم.
كما اننا نجد ان تأثير بلاد النهرين كان واضحا كذلك في مجالين اخرين:
الاول: هو مجال ادب الملاحم الذي ظهر عند السومريين والبابليين في عدد من الملاحم ابرزها ملحمة جلجامش وملحمة اينوما ايليش واثر الملحمه الاولي يظهر في اكثر من جانب في ملحمة الاديسية المنسوبة الى الشاعر اليوناني هوميروس.
الثاني: هو مجال الاساطير التى كان الانسان في العصور القديمة يحاول عن طريقها ان يفسر الظواهر الطبيعية وظواهر الكون المحيط به مثل مظاهر الحياة والخلق والموت والخصوبة والاجداب وغيرها ومن ثم يحدد علاقته بها وموقفه منها، وهنا نجد قدرا غير قليل من الاساطير اليونانية تكاد تتطابق فكرة وتفصيلا مع الاساطير التى سبقتها في بلاد النهرين مثل الاساطير المتعلقة بقصة الطوفان وقصة خلق الانسان من طين وماء وروح مقدسة واسطورة انانا وتموزي (عشتار وتموز) البابلية ونظيرتها اسطورة افروديتي وادونيس اليونانية التى وصلت اليهم عن طريق الفينيقين، كما يظهر تأثير الاشوريين في الفن اليوناني في طريقة نحت التماثيل الحيوانية ونقش الافاريز التى كان يتبعها الونانيون في بادئ الامر.
ونأتي الان للنقطه الخامسة من اهمية دراسة تاريخ هذه الرقعه الجغرافية الهامه وان لم تكن اهمهم جميعا الا وهي ان منطقة الشرق الادني القديم صاحبة الارث الروحي وصاحبة الرصيد الديني الذي لا يوجد له نظير في مناطق اخري من العالم القديم والحديث.
فاذا كان الاتجاه الديني في بادئ الامر كان قائما على عبادة عدة معبودات فنجد ان اخناتون في مصر حاول ان ينشر عبادة موحدة لمعبود واحد وهو اتون ونشيده الكبير هو الاصل الذي نقل عنه الجزء الاكبر من مزمور 104 لسيدنا داود (كما يعتقد ويقرب الكثير من الاثاريين وعلى رأسهم بريستد) كما ان بردية امنمؤبت كانت ايضا الاصل الذي نقل عنه جامع سفر الامثال لسيدنا سليمان وبعبارة اخري كان لمصر فضل لا ينكر على العبرانيين في تكوين جانب من فكرهم الديني عندما بدأوا في القرن الثامن قبل الميلاد في كتابة بعض اجزاء في كتاب العهد القديم فالكتاب المقدس هو نفحه من نفحات الشرق الادني القديم وقد استمد الكثير من اصوله الاولي من بلاد النهرين وايضا مصر.
وكان لبعض المعتقدات الدينية في الشرق القديم اثرها في اوربا في القرن الاول الميلادي فقد كان للمعبودة المصرية ايزيس معابد كثيره في روما وغيرها من المدن الرومانية في تلك الفترة وكان يقوم على خدمة هذه المعابد كهنة مصريين يساعدهم كهنة من ابناء البلاد وكانت مواكب هذه المعبودة وتمثيل قصتها كل عام ذات اثر كبير على افكار الناس عامة في ذلك العهد بل ان التمثيليات التى كانت تقام سنويا في اعياد المعبوده وبخاصة قصة الصراع بين اوزوريس وست وحورس وست التى كانت تمثل منذ اربعة الاف عام وتعتبر اقدم المسرحيات الدينية في تاريخ العالم القديم لانها تمثل الصراع بين الخير والشر كانت الاصل للتمثيليات الدينية في العصور الوسطى في اوربا كما عبد المعبود المصري امون في بلاد اليونان.
كما اقتبس اليونان عبادة المعبود الكنعاني ادون (بمعني سيد) وجعلوا منه ادونيس واصبح اشهر المعبودات السورية واقيمت عبادة له في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد.
وبعد ذلك جاءت فترة ظهر فيها في مختلف بقاع الشرق الادني القديم الانبياء والرسل اصحاب الرسالات نادي كلا منهم برسالة التوحيد والايمان والتسليم لله وحده وعبادته دون سواه امثال سيدنا ابراهيم الذي ظهر في بلاد النهرين وفلسطين ومصر وشبه الجزيرة العربية ثم عاد الى فلسطين ودفن في مدينة الخليل وسيدنا نوح الذي وصلت سفينته الى جنوب وادي النهرين وسيدنا يحيى في فلسطين وسيدنا ايوب الذي يعد اقدم الانبياء في الجزيرة العربية وربما كان من شمال نجد وشرق العقبة وسيدنا هود في منطقة الاحقاف وسيدنا صالح في الحجر وسيدنا شعيب في شمال الجزيرة العربية وسيدنا لوط في سهل الاردن وسكن سيدنا يعقوب ارض فلسطين وجاء الى مصر كما نعلم الكثير عن قصة سيدنا يوسف ومجيئه الى مصر ثم مجيئ اخوته اليه ومجيئ ابويه اليه وغير هؤلاء الذين ظهروا في اماكن عديدة من بلاد الشرق القديم
كل ذلك كان تمهيدا لان يصبح الشرق الادني القديم منبعا لديانة التوحيد ومهبطا للكتب السماوية التى نادت بعبادة الله وحده وعدم الشرك به وكان هذا الشرق عينه وهذا الجزء من الشرق العربي بالذات هو الذي قدم للانسانية ثلاثة من اعظم الرسل ومعلميها وذلك لهداية البشر اجمعين لقد ولد سيدنا موسي ونشأ في ارض مصر ولم يكن قومه الا من المصريين انفسهم وعناصر من اهل هذا الشرق وربما من شمال الجزيرة العربية او من اراضي في فلسطين ولكنهم كانوا يعيشون انذاك في مصر وتبليغه ومعه سيدنا هارون رسالة التوحيد والايمان لفرعون مصر وولد سيدنا عيسي ونشأ في فلسطين وولد سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ونشأ في مكة وسط الجزيرة العربية.
وفي اهل الشرق القديم نزلت الكتب السماوية التى هي بمثابة وثائق ووصايا الهية انزلها الله سبحانه على رسله وقد ذكر القران منها اربعة: الزبور الذي انزل على سيدنا داود والكتاب الذي انزل على سيدنا موسي او الفرقان الذي انزل على سيدنا موسي وهارون والانجيل الذي انزل على سيدنا عيسي والقران الذي انزل على سيدنا محمد ولقد انزل الله هذه الكتب المقدسة على هؤلاء الرسل والانبياء مصداقا لقوله سبحانه وتعالي "لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" سورة الحديد الاية 25..
سادسا: ان تلك الاثار الذي لا يزال معظمها قائما في مكانه في معظم بلدان الشرق الاوسط او العالم العربي في ايران والعراق وتركيا وسوريا ولبنان وفلسطين والاردن وفي بعض مناطق الخليج وشبه الجزيرة العربية وخاصة في الجزء الجنوبي منها او التى نقل بعضها اثناء فترة الضعف السياسي التر مر بها الشرق الاوسط وعالمنا العربي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من العصر الحديث الى دور التحف العالمية في اوربا وامريكا واستراليا وغيرها من الاماكن او التى لا تزال ضمن مجموعات خاصة تعد كلها ادلة حقيقية وشواهد ثابته بما كان لاهل الشرق الادني القديم من سبق تاريخي وايضا سبق حضاري وان مجد اقامة هذه الاثار كلها وما تدل عليه من مظاهر تاريخية وحضارية يتقاسم الفخر فيه كل ملك وحاكم وكل مهندس معماري ومشرف وكل رءيس عمال وكل فنان وصانع وعامل في كل بلد من بلدان الشرق الادني القديم.
لكل هذه الاسباب (وغيرها من الاسباب الاخري والذي لم يسعني الوقت لذكرها) يستأثر تاريخ الشرق الادني القديم باهتمامنا (واهتمامي الشخصي والبالغ لهذه المنطقه) فلم يكن عالما غامضا او متخلفا ولكنه كان بكل حضاراته المختلفة يمثل الحلقات الاولي في السلسلة التى تمثل الحضارات المتتابعة للانسانية منذ بدايتها حتي عصرنا الحالي.
وبداية من غدا ان شاء الله سأتناول بعض جوانب كل حضارة من حضارات الشرق الادني القديم على حده في لمحه خاصة بها ولكن يبقي عنوان السلسة كما هو لمحه عن تاريخ الشرق الادني القديم حتي يحقق ما ابغيه من ترابط هذه الحضارات، والله المستعان
0 comments:
إرسال تعليق